
الحمد لله الذي جعل الزمان محطاتٍ للتزود بالإيمان، وأعظم هذه المحطات شهر رمضان، شهر المغفرة والرضوان، الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب النيران، وتُصفد مردة الشياطين. وفي هذا الشهر العظيم، تبرز أيامٌ مباركات هنَّ العشر الأواخر، التي اختصها الله بليلة القدر، ليلةٍ هي خيرٌ من عبادة ألف شهر، فكانت محط أنظار السالكين إلى رضوان الله، وموئل المجتهدين في طلب المغفرة والعتق من النيران.
لقد كان النبي ﷺ يُعلي من شأن هذه الأيام، فيجعلها موسماً للانقطاع إلى الله، والانخلاع من شواغل الدنيا. ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» (مسلم: 1174). ومعنى "شَدَّ مِئْزَرَهُ" -كما فسره العلماء- أنه كان يعتزل النساء، ويتفرغ للعبادة، وكأنه يربط قلبه برب العالمين، فلا تشغله الدنيا عن الآخرة. ولم يكن هذا الاجتهاد مقصورًا على النبي وحده، بل كان يُشرك أهله في هذا الخير، فيوقظهم لقيام الليل، تأكيدًا على أن العبادة الجماعية تُثمر مجتمعًا تقيًّا، وبيوتًا عامرة بذكر الله.
وتمتاز هذه العشر بليلة القدر، التي أنزل الله فيها القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر: 1-3). وهذه الليلة ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي ليلةٌ تتجدد فيها البركات كل عام، ففيها تُقدَّر مقادير الخلائق من حياةٍ وموتٍ ورزقٍ وسعادةٍ أو شقاء، كما قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 4). وقد فسّر ابن عباس -رضي الله عنهما- ذلك بقوله: "يُكتب في ليلة القدر ما يكون في السنة من خيرٍ أو شرٍّ، أو رزقٍ أو أجل" (تفسير الطبري).
ولعظمة هذه الليلة، جعل الله ثواب قيامها مغفرةً للذنوب، ففي الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (البخاري: 1901). والإيمان هنا هو التصديق بفضلها، والاحتساب هو إخلاص النية لله، دون رياء أو سمعة. وهذا الفضل العظيم جعل النبي ﷺ يتحراها في العشر الأواخر، ويعتكف في المسجد طلبًا لها، حتى إنه كان يحيي الليل كله في عبادةٍ وذكرٍ، كما روت عائشة: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» (مسلم: 1175).
وقد اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر، لكن النبي ﷺ حثَّ على تحريها في الأوتار من العشر الأواخر، فقال: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي الْوِتْرِ» (البخاري: 1912)، أي في الليالي الفردية (21، 23، 25، 27، 29). وقد جاءت رواياتٌ كثيرة تُرجح أنها تتنقل بين هذه الأوتار، فمرةً تكون في ليلة إحدى وعشرين، كما في حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يسجد صبيحتها في الطين بعد مطرٍ غزير -رواه مسلم ، ومرةً في ليلة سبع وعشرين، كما رجحه الصحابي أبي بن كعب -رضي الله عنه-، مستدلاً بعلامة طلوع الشمس بلا شعاع -رواه مسلم.
ولعل الحكمة من إخفاء ليلة القدر -كما ذكر النووي- هي حثُّ المسلمين على الاجتهاد في جميع ليالي العشر، فلا يقتصرون على ليلةٍ واحدة، فيكون اجتهادهم سببًا لمضاعفة الحسنات (شرح صحيح مسلم: 8/57). وهذا الإخفاء يُذكِّر المؤمن بأن الله يختبر صدق عباده في طلبهم، كما يختبرهم في سائر العبادات. ولم يترك النبي ﷺ أُمته دون أن يُعلمها أفضل الأدعية في هذه الليلة، فعندما سألته عائشة رضي الله عنها: «أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَدْعُو؟»، قال لها: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» (الترمذي: 3513). وهذا الدعاء يجمع بين الاعتراف بذنوب العبد، وثقتَه بعفو الله وكرمه، فكأنه يقول: "يا رب، أنا مقصّرٌ، لكنك تعفو عن المقصرين".
إن العشر الأواخر من رمضان فرصةٌ ذهبيةٌ للتوبة النصوح، ولإصلاح القلوب، ولتجديد العهد مع الله. فهي أيامٌ معدوداتٌ، لكنها قد تكون سببًا في سعادةٍ أبدية. فلنحرص على إحياء لياليها بالصلاة والقرآن، ولنكثر من الدعاء: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا".
وليتذكر كل مسلمٍ أن الموت قد يأتي بغتةً، فمن فاته خير هذه الليالي، فكأنما فاته كنزٌ من كنوز الآخرة.
نسأل الله أن يوفقنا لاستغلال هذه الليالي المباركة وأن يتقبل منا اعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.