
الحمد لله الذي جعل الأولاد زينة الحياة الدنيا، وامتحن الوالدين بحفظ هذه الأمانة وتربيتها على التقوى، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، المربي الأعظم، الذي أرشد الأمة إلى كل خير، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على نهجه.
أما بعد:
إن تربية الأبناء وتوجيههم إلى الصراط المستقيم مهمةٌ عظيمة، تحتاج إلى حكمةٍ وصبرٍ، وإلى فهمٍ عميق لمسؤولية الأبوة والأمومة، فالأبناء ليسو مجرد أفرادٍ ينتمون إلى الأسرة، بل هم بذورُ مستقبل الأمة، وعليهم تُبنى حضارتها، ولذلك كان من أعظم الواجبات أن يُوجههم الآباء إلى الخير، ويُبعدوهم عن سبل الضلال.
القدوة الحسنة أساس التربية:
لا ينفع النصح إن لم يكن الوالدان قدوةً عمليةً في حياة أبنائهم. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم:6]
فالأطفال يراقبون سلوكيات آبائهم قبل أن يستمعوا إلى كلامهم، ويتشربون قيمهم من أفعالهم أكثر من نصائحهم.
إن الأب الذي يُصلي صلاته في وقتها ويُحافظ على لسانه من الغيبة والنميمة والسباب والشتم، ويتعامل بالصدق والوضوح في تجارته، يُعلّم أبنائه -دون كلام- معنى الاستقامة والصلاح.
والأم التي تتحلى بالصبر، وتُحافظ على حجابها، وتقرأ القرآن، وتعتني بزوجها وأولادها وبيتها تُصبح مثالًا حيًّا لابنتها على التقوى.
فصلاح الأبناء يبدأ بصلاح الآباء، يقول الله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82]
غرس الإيمان: بناء الهوية الروحية!
إن تعليم الأبناء -منذ طفولتهم المبكرة- القرآن الكريم، وحفظ الأحاديث النبوية القصيرة، وسرد قصص الأنبياء، كلها أدواتٌ تُثبّت فيهم الانتماء إلى دينهم، وقد كان النبي ﷺ يُرَبِّي الصغار على العبادة بتدرج؛ فأمر بتعليم الصلاة في السابعة، والضرب عليها في العاشرة، ليس كعقاب، بل كتأكيدٍ على أهميتها.قال -عليه السلام-: "مُرُوا أولادَكم بالصلاةِ و هم أبناءُ سبعِ سِنِينَ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عشرِ سِنِينَ، وفَرِّقُوا بينهم في المضاجعِ" (أخرجه أبو داود وأحمد).
ولا يقتصر غرس الإيمان على العبادات فقط، بل يشمل الأخلاق الكريمة التي أمر بها الإسلام، فتعويد الابن على الصدق في القول، والرحمة بالضعيف، واحترام الكبير، يجعل منه إنسانًا متوازنًا. وكما قال الإمام الغزالي: "الطفل أمانةٌ عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ ساذجة.. فإن عوّدوه الخير نشأ عليه، وإن عوّدوه الشر شقي وهلك".
وفي زمنٍ تكثر فيه المغريات، لا يكفي الأمر والنهي؛ بل لا بد من فتح حوارٍ هادئٍ مع الأبناء، يُناقشون فيه شكوكهم، ويُعبّرون عن تساؤلاتهم بحرية. فالابن الذي يشعر أن والديه يستمعان إليه بإنصاتٍ، سيثق بهما ويتبع توجيهاتهما. أما الابن الذي تقابل تساؤلاته بالصراخ أو السخرية، فسيبحث عن إجاباتٍ في أماكنَ قد تضله وتغويه.
يُعدّ الحوار المفتوح والتواصل الفعّال أداة لا غنى عنها في عملية التوجيه، فبناء جسور من الثقة والتفاهم يتطلب تخصيص وقت نوعي للاستماع إلى الأبناء، ومشاركتهم اهتماماتهم، والتعرف على أفكارهم ومشاعرهم، ومناقشتهم بهدوء وحكمة فيما يعترضهم من صعوبات أو تساؤلات.
هذا الحوار الصادق يفتح الأبواب المغلقة، ويساعد الوالدين على فهم عالم أبنائهم المتغير وتقديم النصح والإرشاد المناسبين في الوقت المناسب. قال تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ) [البقرة:133].
التربية بالحب: بين اللين والحزم:
القلوب لا تُجذب بالقسوة، لكن هذا لا يعني إهمال الحزم حين يقتضي الأمر، فالميزان الصحيح في التربية هو الجمع بين العاطفة والانضباط، فامدح ابنك عندما يفعل الصواب، وعانقه عندما يُخطئ ليشعر أنك تُريد إصلاحه لا معاقبته.
وفي الوقت نفسه، لا تتهاون في تصحيح الأخطاء التي تُعارض أصول الدين، كإهمال الصلاة أو مخالطة رفقاء السوء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يُحبّ الرِّفْقَ في الأمر كُلِّه»، فحتى العقاب يجب أن يكون وسيلةً للتأديب، لا للقسوة في العقاب. وتذكَّر أن التوبيخ الدائم يقتل الثقة، ويُبعد الأبناء عن النصيحة.
وتذكر حديث معاوية -رضي الله عنه-: (فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي،) رواه مسلم
وتذكر أن حِكمتك وقوة تخطيطك -مهما بلغت- لن تكفي لهداية ابنك فأنت لا تملكها، فالقلوب بيد الله وحده، فاجعل الدعاء له بالصلاح ديدنك، واقرأ عليه الأذكار ليحفظها ويكون قريبا من مولاه، وكرر مثل قول النبي ﷺ: (اللهمَّ اجعلْهُ هادِيًا مَهْدِيًّا، و اهْدِه، و اهْدِ بهِ).