
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن العلاقة بين الآباء والأبناء في الإسلام هي علاقة مقدسة، تقوم على البر والإحسان المتبادل، ولكن القرآن الكريم لم يغفل جانباً مهماً من هذه العلاقة وهو دعوة الأبناء للآباء.
هذه الدعوة تتجاوز مجرد الطاعة والبر، لتمتد إلى حرص الأبناء على هداية آبائهم إلى طريق الحق، ونجاتهم من الضلال، وخاصة إذا كانوا على غير ملة الإسلام أو انحرفوا عن الصراط المستقيم.
إنها قمة الإحسان، أن يسعى الابن لإنقاذ الروح التي أحبته وربته، وأن يحرص على أن يجتمعا في جنات النعيم.
هذا الجانب من الدعوة يعكس عمق الرابطة الإيمانية والإنسانية، ويبرز مدى رحمة الإسلام وشموليته، فهو لا يقف عند حدود القرابة بالدم، بل يتجاوزها إلى القرابة في الإيمان، التي هي أسمى وأبقى.
لقد حكى القرآن الكريم قصصاً مؤثرة تبرز هذا الجانب من دعوة الأبناء للآباء، ولعل أبرز هذه القصص هي قصة إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه آزر، فإبراهيم -عليه السلام- كان حريصاً أشد الحرص على دعوة أبيه الذي كان يعبد الأصنام، يتوجه إليه باللين والحكمة والموعظة الحسنة، كما جاء في سورة مريم: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾.
في هذه الآيات نرى إبراهيم -عليه السلام- يستخدم أرق الألفاظ "يا أبتِ"، ويقدم الحجة العقلية الواضحة، ثم يعرض العلم الذي آتاه الله إياه، ويُرغِّب أباه في الهداية، ويحذره من عواقب الشرك بأسلوب ملؤه الشفقة والرحمة والخوف على مصير أبيه، حتى بعد أن قابله أبوه بالجفاء والتهديد، قال إبراهيم -عليه السلام-: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾، وهذا يدل على مدى بره وحرصه على أبيه، إلى أن نهاه الله عن ذلك بعد أن تبين له إصراره على الكفر.
هذه القصة نموذج عظيم للأبناء في كيفية التعامل مع الآباء المخالفين في العقيدة، بالرفق واللين والحجة، مع الاستمرار في البر وعدم الإساءة.
وعلى الرغم من أن القرآن الكريم لم يذكر قصصاً أخرى مفصَّلة عن دعوة الأبناء للآباء بنفس تفصيل قصة إبراهيم، إلا أن المبدأ العام في الإسلام يدعو إلى الإحسان إلى الوالدين حتى ولو كانا مشركين، ما لم يأمرا بمعصية، كما في قوله تعالى في سورة لقمان: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾. هذه الآية تحدد الخط الفاصل بين الطاعة المطلقة للوالدين والطاعة المطلقة لله، وتؤكد على ضرورة مصاحبتهما بالمعروف حتى لو كانا مشركين، والمصاحبة بالمعروف تشمل بلا شك السعي لهدايتهما بالتي هي أحسن، ودعوتهما إلى التوحيد برفق ولين.
فالابن المؤمن يشعر بمسؤولية تجاه والديه في هدايتهما إلى الصراط المستقيم، لأنه يعلم أن نجاتهما في الآخرة هي أقصى درجات البر والإحسان.
أما سيرة النبي محمد ﷺ، فتقدم لنا مثالاً فريداً على هذا الجانب من دعوة الأبناء إلى آبائهم (بالمعنى الأوسع) أو من قام مقام الأب، فلم يكن النبي ﷺ يمتلك والدين حيين ليقوم بدعوتهما، فقد توفيا قبل بعثته، لكنه كان حريصاً أشد الحرص على هداية عمه أبي طالب الذي كفله ونصره وحماه من أذى قريش. ظل النبي ﷺ يدعوه إلى الإسلام حتى آخر لحظات حياته، مع حرصه على بره وتقديره لفضله عليه، وهذا يدل على عظم مكانة هذا العم في قلبه، ورغبته الشديدة في نجاته، فعندما حضرته الوفاة، دخل عليه النبي ﷺ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال له النبي ﷺ: "يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فتشاحن القوم، فقالوا: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟" فلم يزل يكلمه، فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: "هو على ملة عبد المطلب"، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. رواه مسلم
فقال النبي ﷺ: "والله لأستغفرن لك ما لم أنهَ عنك"، فأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.هذا الموقف يجسد بوضوح مدى حرص النبي ﷺ على هداية من قام مقامه كأب، وتشبثه بأمل نجاته حتى آخر رمق، مع التزامه بحدود الشرع فيما بعد.
إنّ عظمة الإسلام تتجلّى في دعوته الأبناء إلى السعي لهداية آبائهم، فهو يجمع بين البر العظيم والرغبة في النجاة الأبدية.
إن دعوة الأبناء للآباء هي قمة البر والإحسان، وتتطلب حكمة وصبراً وشفقة ومودة، مع التزام بأصول الدعوة الإسلامية من لين وحسنى وحجة، وعدم اليأس من رحمة الله حتى آخر لحظة، فالابن المؤمن لا يكتفي بخدمة والديه في حياتهما الدنيا، بل يمتد بره وشفقته ليشمل نجاتهما في الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم. فهل نعي هذه المسؤولية تجاه والدينا، ونسعى لهدايتهما إذا كانا في حاجة إليها، بالتي هي أحسن؟!