
الحمد لله الذي جعل الأعياد مناسباتٍ للتجديد الروحي والاجتماعي، والصلاة والسلام على رسول الله الذي أرسله الله رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمواسم الأعياد في الإسلام ليست مجرد أيام فرحٍ عابرة، بل هي محطاتٌ تربويةٌ يستثمرها الداعية لتعزيز الوعي الديني، وبناء الجسور مع المجتمع، وغرس القيم التي تحقق مقاصد الشريعة. وإنَّ النفوس في هذه الأيام تكون أرقَّ قلوبًا، وأكثرَ استعدادًا لتقبُّل النصح، مما يجعلها فرصةً ذهبيةً للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
الأعياد: جسرٌ بين الداعية والمجتمع!
تتميَّز مواسم الأعياد باجتماع الأسر وزيادة التواصل بين الناس، وهذا الاجتماع يُعدُّ منفذًا للداعية ليكون حاضرًا في قلب المجتمع، مشاركًا لهم فرحتهم، موجِّهًا لهم بأسلوبٍ لطيفٍ يتناسب مع جوِّ المناسبة. ففي لحظات الفرح هذه، تذوب الحواجز النفسية، وتنفتح القلوب لسماع كلمة الحق، خاصة إذا اقترنت بالرحمة والحكمة.
ولعلَّ أبرز ما يُمكن للداعية أن يفعله هو ربط فرحة العيد بالشكر لله على نعمة إتمام العبادات، كالصيام في عيد الفطر، أو الحج والأضحية في عيد الأضحى. فذِكْرُ فضل الله على الناس بأن مَنَّ عليهم بإكمال هذه العبادات، يجعل الفرح مرتبطًا بالامتنان لله والتقرب إليه، لا باللهو المحض.
توظيف الخطاب الديني في موسم الفرح:
يجب أن يكون خطاب الداعية في الأعياد مزيجًا من التذكير بالله والمرح المشروع، فالنبي ﷺ كان يُمازح أصحابه ويُشاركهم فرحتهم، دون أن يغفل عن توجيههم. فعندما يُلقي الداعية خطبة العيد، يُركِّز على قيم التسامح وصلة الأرحام، مستشهدًا بقصة النبي إبراهيم وابنه إسماعيل في عيد الأضحى، أو بحديث النبي ﷺ: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر حق كبيرنا». أخرجه أبو داوود والترمذي وأحمد.
كما يُمكنه استغلال المنصات الإعلامية لنشر مقاطع قصيرة تُذكِّر بآداب العيد، مثل: التكبير، وإدخال السرور على الأطفال، والإحسان إلى الجيران.
وفي زمن الوسائط المتعددة، تُصبح الرسائل المرئية المؤثرة أداةً فعَّالةً لتعميق القيم دون إثارة الملل.
المبادرات التطبيقية: الجمع بين الفرح والعطاء:
لا تقتصر الدعوة على الكلمات، بل تمتد إلى الأفعال. فتنظيم حملات لتوزيع الهدايا على الأيتام، أو إشراك الشباب في ذبح الأضاحي وتوزيعها على الفقراء، يُحيي في النفوس معاني التكافل.
كما أن زيارة المرضى في المستشفيات، أو السجناء، تُذكِّر الجميع بأن الفرح الحقيقي هو مشاركة الآخرين ألمهم وأملهم.
ولا يغفل الداعية عن توجيه الناس لضبط الإنفاق في العيد، تجنبًا للإسراف الذي يُفسد فرحة الطاعة، مستندًا إلى قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
التوازن بين الفرح والجدية: فنُّ الدعوة في المناسبات!
لكي لا يفقد الداعية مصداقيته، عليه أن يحفظ للعيد بهجته، فلا يُثقِل الخطاب بالمواعظ الجافة، ولا يُفرِّط في المرح حتى لا تُنسى حرمة الزمان. فالحكمة هي أن يدمج التوجيه في ثنايا الفرح، كأن يُذكِّر الآباء بضرورة تعليم أبنائهم معنى الشكر أثناء شراء ملابس العيد، أو أن يحثَّ الأصدقاء على التسامح خلال تبادل التهاني.
الأعياد: ذكرى للتجديد لا للتقليد:
إن نجاح الداعية في استغلال مواسم العيد يُقاس بقدرته على تحويلها من عادةٍ سنويةٍ إلى شعيرةٍ تعبديةٍ تترك أثرًا في القلوب. فكما أن الحج يُجدد الإيمان، والعمرة تُذهِب الفقر والذنوب، فإن العيد يجب أن يكون محطةً لمراجعة النفس، وتصحيح المسار.
وختامًا، فإن الداعية الناجح هو من يُحوِّل الفرح العابر إلى فرحٍ دائمٍ بالطاعة، ويجعل من مناسبات العيد جسرًا يعبر عليه الناس من الظلمات إلى النور. وقد قال النبي ﷺ: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها» (صحيح الجامع).
فلتكن أيام العيد نفحاتٍ من الرحمة، يغتنمها الداعية ليرسم بها طريق الهداية.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.