
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن حياة الإنسان على هذه الأرض مليئة بالتقلبات والتحديات: أفراح وأتراح، يسر وعسر، قوة وضعف. وفي خضم هذه المتغيرات، يبقى القلب البشري في حاجة ماسّة إلى ركن شديد يأوي إليه، وسند قوي يعتمد عليه، ليجد الطمأنينة والسكينة في نفسه. وهذا الركن الشديد والسند القوي هو الله سبحانه وتعالى، خالق الكون ومدبر الأمر.
فاللجوء إلى الله والاعتصام به ليس مجرد شعار يُرفع أو دعاء يُردد، بل هو منهج حياة وعقيدة راسخة وملاذ آمن لكل مؤمن يدرك ضعف نفسه وعظمة خالقه. إنه إقرار بالفقر المطلق إلى الله، وغنى بالله عن سواه، وتمام التوكل عليه في كل صغيرة وكبيرة، في الشدة والرخاء، في السر والعلن.
فمن اعتصم بالله وتوكل عليه حق التوكل، وجد منه العون والنصرة، وكفاه كل هم، وأزاح عنه كل غم، وكان له حصنًا منيعًا من كل سوء.
هذا المبدأ العظيم هو أساس قوة الإيمان، وسر الطمأنينة القلبية، وبوابة النجاة في الدنيا والآخرة، لأنه يربط العبد بربه مباشرة، ويجرّده من أي قوة أو حول إلا بالله وحده.
اللجوء إلى الله في القرآن الكريم:
لقد أكد القرآن الكريم هذا المبدأ العظيم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: 103].
ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101].
فالاعتصام بالله هو مفتاح الهداية إلى الطريق المستقيم؛ لأن من تمسك بالله واعتمد عليه، لن يضل ولن يشقى. كما قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [آل عمران: 122]. فهذا التوكّل قمة اللجوء إليه، والاعتماد عليه في جلب الخير ودفع الضر.
وبيّن القرآن خطورة اللجوء إلى غير الله، فقال عن حال من يلجأ إلى الجن:
﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن: 6].
فمن لجأ إلى غير الله، لم يزد إلا ضعفًا ووهنًا.
بل إن القرآن يصور لنا كيف كان الأنبياء -عليهم السلام- يلجأون إلى الله في أصعب المواقف، كما في قصة يونس -عليه السلام- حين نادى في الظلمات:
﴿أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87-88].
اللجوء إلى الله في السنة النبوية:
حفلت السنة النبوية بالأحاديث التي تحث على اللجوء إلى الله والاعتصام به. فقد قال النبي ﷺ لابن عباس -رضي الله عنهما-:
«إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله…» (رواه الترمذي).
وهذا الحديث يلخص جوهر الاعتصام بالله، فهو يعلّم المؤمن أن لا يتعلق إلا بالله، وأن النفع والضر بيده وحده.
وكان ﷺ يدعو ربه قائلاً:
«يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (رواه الحاكم).
وهذا الدعاء يبين مدى افتقار العبد إلى ربه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين.
من سيرة النبي ﷺ:
تجلت معاني اللجوء إلى الله والاعتصام به في حياة النبي ﷺ أوضح ما تكون:
• في غزوة بدر، وقف ﷺ يدعو ويلح حتى سقط رداؤه عن منكبيه: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض» (رواه مسلم). فكان دعاؤه سببًا في نزول النصر.
• وفي غار ثور، حين قال أبو بكر -رضي الله عنه-: «لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا»، أجابه النبي ﷺ مطمئنًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]. فكان يقينه بالله سببًا في النجاة.
إن اللجوء إلى الله والاعتصام به هو قوة المؤمن الحقيقية وملاذه الآمن من كل هم وغم، فالقرآن يأمر به، والسنة تحث عليه، وسيرة النبي ﷺ تجسده في أسمى صوره.
ومن يعتصم بالله حق الاعتصام، يجد الطمأنينة التي لا تزول، والنصرة التي لا تخيب، والرعاية التي لا تنقطع. فلنجعل من اللجوء إلى الله عادة ملازمة لنا في السراء والضراء، ليكون الله لنا حسبنا ونعم الوكيل، فنحيا باليقين، ونفوز بالسكينة، وننجو في الدنيا والآخرة.