Skip to main content

Blog entry by Sam Sam

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن الدعوة إلى الله تعالى ليست مجرد إلقاء للخطب والمواعظ، أو سرد للأدلة والبراهين، بل هي فن عظيم يتطلب من الداعية امتلاك مجموعة من الصفات والمهارات التي تمكنه من الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم، والتأثير فيهم إيجابًا.
ومن أبرز هذه الصفات وأهمها، والتي قد يغفل عنها الكثيرون، هي الاستماع الجيد!
فالاستماع ليس مجرد عملية سلبية تتلقى فيها الأذن الأصوات، بل هو مهارة فعالة، تتطلب حضوراً ذهنياً وقلبياً، وفهماً عميقاً لما يقال، وقدرة على تحليل كلمات المتحدث وما وراءها من مشاعر وأفكار وانطباعات.

 
إن الداعية الذي يتميز بمهارة الاستماع الجيد هو في الحقيقة طبيب للقلوب، يعرف كيف يُشخِّص داء الشبهات والآفات، ويصف الدواء المناسب لها، لأنه -أولاً- يستمع بإنصات لما يعانيه المدعو أو يفكر فيه. هذه الصفة المحورية هي مفتاح الفهم العميق للآخر، وبوابة بناء جسور الثقة والمودة، مما يجعل الدعوة أكثر فاعلية وتأثيراً.
فكيف حثنا القرآن والسنة على هذه الصفة، وكيف طبقها النبي ﷺ في دعوته؟

لقد أكد القرآن الكريم على أهمية الاستماع والإنصات، وجعلها من صفات المؤمنين المتدبرين، وذلك في سياقات مختلفة، فالله -سبحانه وتعالى- يأمرنا بالاستماع إلى القرآن الكريم والإنصات له عند تلاوته، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وهذا الأمر ليس محصوراً في سماع كلام الله فقط، بل هو مبدأ عام ينطبق على كل حديث يحتاج إلى فهم وتدبر، فالإنصات هنا يدل على الاستماع بكل حواس القلب والعقل، وهو ما ينبغي أن يكون عليه الداعية عند حديثه مع المدعو. كما أن الله تعالى وصف الذين يتبعون أحسن القول بأنهم يستمعون إليه، ثم يتبعونه، كما في قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وهذا يدل على أن الاستماع الجيد هو أول خطوة نحو الفهم والتمييز والاتباع، وهو ما يحتاجه الداعية ليعرف كيف يقنع المدعو بالحجة والبرهان بعد أن يكون قد استوعب ما لديه من أفكار.


أما السنة النبوية الشريفة، فقد حفلت بالعديد من المواقف التي تبرز أهمية الاستماع الجيد في الدعوة، فقد كان النبي ﷺ مضرب المثل في حسن الاستماع والإنصات للمتحدث، مهما كان شأنه أو مكانته. فعندما جاءه عتبة بن ربيعة من قريش ليفاوضه ويعرض عليه الأموال والسلطة والنساء ليتوقف عن دعوته، لم يقاطعه النبي ﷺ، بل استمع إليه بكل انتباه حتى فرغ من كلامه، ثم قال له ﷺ: "أفرغت يا أبا الوليد؟" فلما قال: "نعم"، تلا عليه النبي ﷺ صدر سورة فصلت!
وهذا الموقف يدل على صبره وحسن استماعه، مما أثار إعجاب عتبة نفسه، حيث عاد إلى قومه وقال لهم: "والله لقد سمعت قولًا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة"!
هذا الإنصات الكامل مكّن النبي ﷺ من فهم مراد عتبة، ومن ثم الرد عليه بما يقطع الشك باليقين، ويوضح له عظمة رسالته.
كما أن سيرة النبي ﷺ كانت مليئة بالمواقف التي تؤكد على هذه الصفة العظيمة، و من الأمثلة البارزة على ذلك، قصة الرجل الذي جاء يسأل النبي ﷺ عن وقت الساعة، وظل يسأله والنبي ﷺ يُحدّث أصحابه، فاستمع إليه النبي ﷺ حتى أكمل سؤاله، ثم أجابه بوضوح: "إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة"، وهذا يدل على مدى احترامه للمتحدث وحسن استماعه.

 
وفي قصة المرأة التي جاءت تجادل في زوجها واستماع النبي لها أقوى مثل على ذلك:
"تبارَكَ الَّذي وسِعَ سمعُهُ كلَّ شيءٍ، إنِّي لأسمعُ كلامَ خَولةَ بنتِ ثَعلبةَ ويخفَى علَيَّ بعضُهُ، وَهيَ تشتَكي زَوجَها إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وَهيَ تقولُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَكَلَ شَبابي، ونثرتُ لَهُ بَطني، حتَّى إذا كبُرَتْ سِنِّي، وانقطعَ ولَدي، ظاهرَ منِّي، اللَّهمَّ إنِّي أشكو إليكَ، فما برِحَتْ حتَّى نزلَ جِبرائيلُ بِهَؤلاءِ الآياتِ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ".
هذا الإنصات العميق لم يكن مجرد أدب رفيع، بل كان جزءاً لا يتجزأ من منهجه الدعوي، فمن خلال الاستماع يعرف الداعية ما يدور في عقل المدعو من شبهات، وما يعتريه من مخاوف، وما يحيط به من ظروف، فيستطيع أن يقدم له النصيحة الملائمة، والحجة المقنعة، والدواء الشافي.
فالاستماع الجيد يبني الثقة بين الداعية والمدعو، ويفتح قنوات التواصل، ويجعل المدعو يشعر بأنه مسموع ومفهوم، مما يجعله أكثر تقبلاً للنصيحة والتوجيه.


وفي الختام: إن صفة الاستماع الجيد ليست مجرد فضيلة أدبية، بل هي ضرورة منهجية للداعية إلى الله تعالى، فالقرآن والسنة يؤكدان على أهميتها، وسيرة النبي ﷺ تبرز تطبيقاتها العملية في أروع صورها. فالداعية الذي يتقن فن الاستماع، هو في الحقيقة يمتلك مفتاح القلوب والعقول، وهو الأقدر على فهم واقع الناس، والتعرف على احتياجاتهم، ومن ثم تقديم الدعوة إليهم بالحكمة والموعظة الحسنة.

 
إنها صفة تعزز التواصل الفعال، وتبني جسور الثقة، وتجعل الدعوة أكثر تأثيراً وفاعلية في تحقيق أهدافها السامية.