Skip to main content

Blog entry by Sam Sam

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: 
إن بر الوالدين والإحسان إليهما ليس مجرد فضيلة أخلاقية أو عرف اجتماعي، بل هو ركن أصيل من أركان الدين الإسلامي، وتكليف إلهي عظيم، قرنه الله سبحانه وتعالى بعبادته وتوحيده، وهذا ما يدل على عظم منزلته ومكانته في الشريعة الغراء. قال تعالى (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )
فما من عمل يتقرب به العبد إلى ربه بعد الفرائض، إلا وللإحسان إلى الوالدين نصيب وافر في قبوله وثوابه. إنه طريق السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، ومصدر البركة في العمر والرزق، وسبب عظيم لرضا الله ومحبته.

 لقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة لتؤكد على هذا الواجب العظيم، وتفصل جوانبه، وتوضح فضله، وتهيب بالمسلمين إلى القيام به على أكمل وجه. فمنذ اللحظة التي يولد فيها الإنسان، يجد نفسه محاطًا بعناية وحب لا يضاهيهما حب، من والدين كرسا حياتهما لراحته وسعادته، لقد تجلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم في مواضع عديدة، مما يؤكد على أهميته القصوى، ففي سورة الإسراء يقول الله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. 
هذه الآية الكريمة ترسخ مبدأ الإحسان وتنهى عن أبسط أشكال التضجر، وهو قول "أفٍ"، الذي يدل على الضيق أو التبرم، ثم أمرت بالقول الكريم واللين، والتواضع التام لهما، وهو ما يعبر عنه بخفض جناح الذل من الرحمة، وفي النهاية، أمرت بالدعاء لهما بالرحمة، تذكرًا لفضلهما وتضحياتهما في الصغر. كما جاء في سورة لقمان قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، وهنا يذكر الله سبحانه وتعالى مشقة الأم في الحمل والرضاعة، ليغرس في نفس الأبناء عظمة تضحياتها، ويقرن شكره بالوالدين بشكره تعالى، مما يؤكد عظم هذا الحق.


أما السنة النبوية الشريفة، فقد جاءت لتعمق هذا المفهوم، ففي الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك". هذا الحديث العظيم يبرز مكانة الأم العظيمة، ويقدمها على الأب في البر ثلاث مرات، لما تحمله من مشاق الحمل والولادة والرضاعة والتربية، وهو تكريم لا نظير له في أي تشريع آخر.

 
كما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الأعمال، فقال: "الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله"، وهذا الحديث يضع بر الوالدين في منزلة عظيمة بعد الصلاة مباشرة، مقدمًا إياه على الجهاد في سبيل الله، مما يدل على فضله الكبير وعظيم أجره.
ولم يقتصر البر على حياة الوالدين فقط، بل يمتد إلى ما بعد مماتهما، فقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله، هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما".
هذا الحديث يفتح بابًا واسعًا للبر بعد الوفاة، مما يؤكد على استمرارية هذا الواجب العظيم.


وقد تجلت عظمة الإحسان للوالدين في سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بشكل لافت، رغم أنه نشأ يتيمًا، إلا أنه كان شديد البر بوالديه بالمعنى الذي يليق بهما. فقد كان يزور قبر أمه آمنة بنت وهب ويبكي عندها حنينًا وشوقًا، وهذا دليل على بره بها حتى بعد وفاتها.
وكان يحترم مكانة عمه أبي طالب الذي كفله ورباه، ويقدر له جهوده، وهذا يعكس الأخلاق العظيمة التي كان يتحلى بها.
كما كان -صلى الله عليه وسلم- يوجه أصحابه إلى بر آبائهم وأمهاتهم، ويرشد الشباب إلى كيفية التعامل مع والديهم، ويذكرهم دائمًا بفضلهم. فكانت حياته مثالًا حيًا للبر والإحسان.


في الختام: إن الإحسان للوالدين هو بوابة البركة والخير في الدنيا والآخرة، وهو من أعظم القربات إلى الله تعالى، إنه تاج على رؤوس الأبناء، ونور يضيء دروب حياتهم، فمن أحسن إليهما، أحسن الله إليه، ومن عقّهما، فقد تعرض لسخط الله وعقابه، فلنحرص جميعًا على هذا الواجب العظيم، ولنعمل جاهدين على إرضاء والدينا بالقول والفعل والدعاء، فهم كنز لا يقدر بثمن، وباب من أبواب الجنة لا ينبغي أن نغفله.