
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لقد جعل الإسلام الدعوةَ إلى الله مسؤوليةً مشتركة بين الرجل والمرأة، كلٌّ في مجاله، والدعوة النسائية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورةٌ حيوية لإصلاح المجتمع، تستمدّ شرعيتها من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، قال -عليه الصلاة والسلام-: (والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم) وفي رواية: (والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا) -رواه البخاري.
وتستمد قوتها من الخصائص الفريدة للمرأة التي تؤهلها لترسيخ القيم في قلوب الأجيال، قال -تعالى-: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (التوبة: 71).
ومن الخصائص الفريدة للدعوة النسائية:
1. القرب من مركز التأثير المجتمعي: فالمرأة هي الأمُّ وهي الزوجةُ وهي البنتُ وهي الأخت، فهي الأقدر على غرس القيم في الأسرة التي هي النواة الأولى للمجتمع.
وفيما فعلته السيدة أم سليم الأنصارية -رضي الله عنها- خير مثال؛ إذ جعلت ابنها أنس بن مالك -رضي الله عنه- خادمًا لرسول الله ﷺ عشر سنين -كما رواه البخاري- فحفظ أنس بن مالك -رضي الله عنه- من رسول الله أحاديث كثيرة حتى عُدّ من أكثر رواة حديث رسول الله ﷺ.
2. القدرة على مخاطبة القضايا النسائية:
فهناك مسائل خاصة بالمرأة (كأحكام الحيض، والحمل، والرضاع) لا يُفضّل مناقشتها إلا بين النساء خاصة لأنها هي الأعلم بشؤون المرأة وخصوصيتها، وكلام المرأة للمرأة ليس ككلام الرجل للمرأة، وجاء في قصة الصحابية خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- التي نزلت آية الظهار بسبب شكواها للنبي ﷺ (رواه النسائي).
وفي قصة أُم سُلَيْمٍ لما جاءت إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، فَهلْ علَى المَرْأَةِ مِن غُسْلٍ إذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النبيُّ ﷺ: "إذَا رَأَتِ المَاءَ" فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، تَعْنِي وجْهَهَا، وقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ أوَتَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ قَالَ: "نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا ولَدُهَا" -رواه البخاري.
3. الرحمة والعاطفة الجياشة:
فطبيعة المرأة العاطفية تجعلها أكثر تأثيرًا في تليين القلوب، كما فعلت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- في نصيحتها للرسول ﷺ: (قالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، أتُحِبُّ ذلكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أحَدًا منهمْ كَلِمَةً، حتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ) -رواه البخاري، فكانت خير معين ومشير للرسول ﷺ!
وكما في قصة خديجة -رضي الله عنها- في نصرتها ووقوفها مع الرسول ﷺ في بداية دعوته وذهابها به إلى ورقة بن نوفل، جاء في الحديث: (فَرَجَعَ بهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ، حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، قالَ لِخَدِيجَةَ: أيْ خَدِيجَةُ، ما لي لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فأخْبَرَهَا الخَبَرَ، قالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، أبْشِرْ فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ..) رواه البخاري.
الضوابط الشرعية للدعوة النسائية:
ثمّة ضوابط تجعل دعوةَ المرأة سلمًا للصعود، لا سُلّمًا للسقوط:
1. مراعاة الحجاب والستر، قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31).
2. التركيز على المجالات النسائية، وتجنب الاختلاط غير الضروري، والانضباط بقوله ﷺ: (لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألَا لا يَخْلُوَنَّ رجُلٌ بامرأةٍ لا تَحِلُّ له؛ فإنَّ ثالثَهما الشَّيطانُ،) أخرجه أحمد.
3. الالتزام بضوابط الكلام والصوت، قال تعالى {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (الأحزاب: 32).
4. التخصص في مجالات التأثير، كالتربية، والإرشاد الأسري، والتعليم، والدعوة الرقمية (بضوابط)، وغيرها من التخصصات التي تكون قريبة من تخصصات النساء وأعمالهن.
ختامًا:
المرأة هي نصف المجتمع، وعلى يدها يتربى النصف الآخر، فهي أمان المجتمع كله!
لقد أثبتت المرأة المسلمة عبر التاريخ أنها قادرة على حمل رسالة الدعوة بوعي واتزان، فكانت خديجة -رضي الله عنها- سندًا لرسول الله ﷺ، وكانت فاطمة -رضي الله عنها- سبطًا للنبوة، وكانت عائشة -رضي الله عنها- ناقلة للعلم الذي كان خاصًا في بيت النبوة الشريف!
فها هي المرأة اليوم -إذا التزمت الضوابط- قادرةٌ على أن تكون جسرًا للإصلاح، ومحطةً للتغيير وتنطلق لتكون داعية قولاً وفعلاً: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ} (النساء: 34)، لتكون حياتها كلها دعوة إلى الله وهداية لخلقه بما حباها الله من خصوصية وحرمة.
اللهم أصلح مجتمعاتنا ووفق نساءنا لكل خير، واجعلهن صالحات مصلحات داعيات إلى الله بأقوالهن وأفعالهن يا سميع يا عليم..